فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)}.
الملأ: هم عليْة القوم، الذين يملأون العيون، ويتصدَّرون المجالس {إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الشعراء: 34] فاتهمه بالسحر ليخرج من ورطته وقال: ساحر لأن موسى لم يمارس هذه المسألة إلا مرة واحدة هي التي أجراها أمام فرعون، لكن الملأ على علم بالسحر وإِلْف له، وعندهم سحارون كثيرون.
وفَرْق بين ساحر وسحَّار: ساحر لمن مارس هذه العملية مرة واحدة، إنما سحَّار مبالغة تدل على أنها أصبحت حِرْفته، مثل ناجر ونجّار، وخائط وخيّاط.
و{عَلِيمٌ} [الشعراء: 34] أي: بسحره.
{يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)}.
هنا يستعدي فرعون قومه على موسى، ويُحذرهم أنه سيفسد العامة والدهماء، وتكون له الأغلبية، وتكون له شيعة يناصرونه عليكم حتى يُخرِجكم من أرضكم، وهذا أقلّ ما يُنتظر منه، يريد أن يهيج عليه الملأ من قومه؛ ليكونوا أعداء له يقفون في صَفِّ فرعون.
وعجيب أنْ يقول الفرعون الإله {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء: 35] فهذه هي الألوهية الكاذبة التي انحدرتْ إلى مرتبة العبيد، ومتى يأخذ الإله رأي عبيده، ويطلب منهم المعونة والمشورة؟ ولو كان إلهًا بحق لكان عنده الحل ولديه الردّ.
فلما نزل فرعون من منزلة الألوهية، وطلب الاستعانة بالملأ من قومه التفتوا إلى كذبه، ووجدوا الفرصة مواتية للخلاص منه، ومما يدل على أن أكثرهم وجمهرتهم كانوا يجارونه على مضض، وينتظرون لحظة الخلاص من قَهْره وكذبه؛ لذلك قالوا: {قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ}.
{أَرْجِهْ} [الشعراء: 36] من الإرجاء وهو التأخير، أي: أخّره وأخاه لمدة {وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ} [الشعراء: 36] ابعث رسلك يجمعون السَّحارين من أنحاء البلاد، ليقابلوا بسحرهم موسى وهارون. والمدائن: جمع مدينة.
{يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)}.
وقال: {سَحَّارٍ} [الشعراء: 37] بصيغة المبالغة {عَلِيمٍ} [الشعراء: 37] أي: بفنون السِّحْر وألا عيب السَّحَرة.
{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)}.
الميقات: أي الوقت المعلوم، وفي آية أخرى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} [طه: 59] وكان يومًا مشهودًا عندهم، ترتدي في الفتيات أبهى حُلَلها، وكان يوم عيد يختارون فيه عروس النيل التي سيُلْقونها فيه، فحدد اليوم، ثم لم يترك اليوم على إطلاقه، إنما حدد من اليوم وقت الضحى {وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} [طه: 59].
وفي لقطة أخرى حدد المكان، فقال: {مَكَانًا سُوًى} [طه: 58] يعني: فيه سوائية، إما باستواء المكان حتى يتمكّن الجميع من رؤية هذه المباراة السحرية، بحيث تكون في ساحة مستوية الأرض، أو يكون مكانًا سواسية متوسطًا بين المدائن التي سيجمع منها السحرة، بحيث لا يكون متطرفًا، يشقّ على بعضهم حضوره.
وهكذا تتكاتف اللقطات المختلفة لترسم الصورة الكاملة للقصة.
ونرى في هذه المشورة حِرْصَ الملأ على إتمام هذا اللقاء، وأن يكون على رءوس الأشهاد، لأنهم يعلمون أنها ستكون لصالح موسى، وسوف يفضح هذا اللقاءُ كذبَ فرعون في ادعائه الألوهية.
{وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)} أي: أخذوا يدعُون الناس، وكأنهم في حملة دعاية وتأييد، إما لموسى من أنصاره الكارهين لفرعون في الخفاء، وإما لفرعون، فكان هؤلاء وهؤلاء حريصين على حضور هذه المباراة.
إننا نشاهد الجمع الغفير من الجماهير يتجمع لمشاهدة مباراة في كرة القدم مثلًا، فما بالك بمباراة بين سحرة مَنْ يدَّعي الألوهية وموسى الذي جاء برسالة جديدة يقول: إن له إلهًا غير هذا الإله؟ إنه حَدَثٌ هَزَّ الدنيا كلها، وجذب الجميع لمشاهدته. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ}:
هذه واوُ الحالِ. وقال الحوفي: للعطف. وقد تقدَّم تحريرُ هذا عند قولِه: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} [الآية: 170] في البقرة. وغالبُ الجملِ هنا تقدَّم إعرابُها.
{قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)}.
قوله: {حَوْلَهُ}: حالٌ من الملأ. ومفعولُ القولِ قولُه: {إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}، وقيل: صلةٌ للملأ فإنه بمعنى الذي. وقيل: الموصولُ محذوفُ، وهما قولان للكوفين. اهـ.

.تفسير الآيات (41- 44):

قوله تعالى {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
لما رسخ في أذهانهم في الأزمنة المتطاولة من الضلال الذي لا غفلة لإبليس عن تزيينه مع أن تغيير المألوف أمر في غاية العسر.
وقال: {فلما} بالفاء إيذانًا بسرعة حشرهم، إشارة إلى ضخامة ملكه.
ووفور عظمته {جاء السحرة} أي الذين كانوا في جميع بلاد مصر {قالوا لفرعون} مشترطين الأجر في حال الحاجة إلى الفعل ليكون ذلك أجدر بحسن الوعد، ونجاح القصد {أئِنََّ لنا لأجرًا} وساقوه مساق الاستفهام أدبًا معه، وقالوا: {إن كنا} أي كونًا نحن راسخون فيه {نحن} خاصة {الغالبين} بأداة الشك مع جزمهم بالغلبة تخويفًا له بأنه إن لم يحسن في وعدهم لم ينصحوا له؛ ثم قيل في جواب من كأنه سأل عن جوابه: {قال} مجيبًا إلى ما سألوه: {نعم} أي لكم ذلك، وزادهم ما لا أحسن منه عند أهل الدنيا مؤكدًا له فقال: {وإنكم إذًا} أي إذا غلبتم {لمن المقربين} أي عندي، وزاد {إذًا} هنا زيادة في التأكيد لما يتضمن ذلك من إبعاده عن الإيمان من وضوح البرهان، تخفيفًا على المخاطب بهذا كله صلى الله عليه وسلم، تسلية له في الحمل على نفسه أن لا يكون من يدعوهم مؤمنين، وما بعد ذلك من مسارعة السحرة للإيمان- بعد ما ذكر من إقسامهم بعزته بغاية التأكيد- تحقيق لآية {فظلت أعناقهم لها خاضعين}.
ولما تشوف السامع إلى جواب نبي الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام أجيب بقوله: {قال لهم موسى} عليه السلام، أي مريدًا لإبطال سحرهم لأنه لا يتمكن منه إلا بإلقائهم، لا لمجرد إلقائهم، غير مبال بهم في كثرة ولا علم بعد ما خيروه- كما في غير هذه السورة: {ألقوا ما أنتم ملقون} كائنًا ما كان، ازدراء له بالنسبة إلى أمر الله {فألقوا} أي فتسبب عن قول موسى عليه السلام وتعقبه أن ألقوا {حبالهم وعصيهم} التي أعدوها للسحر {وقالوا} مقسمين: {بعزة فرعون} مؤكدين بأنواع التأكيد {إنا لنحن} أي خاصة لا نستثني {الغالبون} قول واثق من نفسه مزمع على أن لا يدع بابًا من السحر يعرفه إلا أتى به، فكل من حلف بغير الله كأن يقول: وحياة فلان، وحق رأسه- ونحو ذلك، فهو تابع لهذه الجاهلية. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)}.
اعلم أنهم لما اجتمعوا كان لابد من أن يبدأ موسى أو يبدأوا ثم إنهم تواضعوا له فقدموه على أنفسهم، وقالوا: {إِمَّا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن تَكُونُ أَوَّلَ مَنْ ألقى} [طه: 65] فلما تواضعوا له تواضع هو أيضًا لهم فقدمهم على نفسه، وقال: {أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ} فإن قيل كيف جاز لموسى عليه السلام أن يأمر السحرة بإلقاء الحبال والعصي وذلك سحر وتلبيس وكفر والأمر بمثله لا يجوز الجواب: لا شبهة في أن ذلك ليس بأمر لأن مراد موسى عليه السلام منهم كان أن يؤمنوا به ولا يقدموا على ما يجري مجرى المغالبة، وإذا ثبت هذا وجب تأويل صيغة الأمر وفيه وجوه: أحدها: ذلك الأمر كان مشروطًا والتقدير ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين كما في قوله: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ} {إِن كُنتُمْ صادقين} [البقرة: 23] وثانيها: لما تعين ذلك طريقًا إلى كشف الشبهة صار جائزًا وثالثها: أن هذا ليس بأمر بل هو تهديد، أي إن فعلتم ذلك أتينا بما تبطله، كقول القائل لئن رميتني لأفعلن ولأصنعن ثم يفوق له السهم فيقول له ارم فيكون ذلك منه تهديدًا ورابعها: ما ذكرنا أنهم لما تواضعوا له وقدموه على أنفسهم فهو قدمهم على نفسه على رجاء أن يصير ذلك التواضع سببًا لقبول الحق ولقد حصل ببركة ذلك التواضع ذلك المطلوب، وهذا تنبيه على أن اللائق بالمسلم في كل الأحوال التواضع، لأن مثل موسى عليه السلام لما لم يترك التواضع مع أولئك السحرة، فبأن يفعل الواحد منا أولى.
أما قوله تعالى: {فَأَلْقَوْاْ حبالهم وَعِصِيَّهُمْ} فروي عن ابن عباس أنهم لما ألقوا حبالهم وعصيهم وقد كانت الحبال مطلية بالزئبق والعصي مجوفة مملوءة من الزئبق فلما حميت اشتدت حركتها فصارت كأنها حيات تدب من كل جانب من الأرض فهاب موسى عليه السلام ذلك، فقيل له ألق ما في يمينك فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ثم فتحت فاها فابتلعت كل ما رموه من حبالهم وعصيهم حتى أكلت الكل ثم أخذ موسى عصاه، فإذا هي كما كانت فلما رأت السحرة ذلك قالت لفرعون كنا نساحر الناس فإذا غلبناهم بقيت الحبال والعصي، وكذلك إن غلبونا ولكن هذا حق فسجدوا وآمنوا برب العالمين.
واعلم أن في الآثار اختلافًا فمنهم من كثر الحبال والعصي، ومنهم من توسط، والله أعلم بعدد ذلك، والذي يدل القرآن عليه أنها كثيرة من حيث حشروا من كل بلد، ولأن الأمر بلغ عند فرعون وقومه في العظم مبلغًا يبعد أن يدخر عنه ما يمكن من جمع السحرة.
وأما قوله: {وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} فالمراد أنهم أظهروا ما يجري مجرى القطع على أنهم يغلبون، وكل ذلك لما ظهر كان أقوى لأمر موسى عليه السلام. اهـ.

.قال ابن عطية:

{فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا}.
وقرأ الأعرج وأبو عمرو {أين لنا} على الاستفهام، وقرأ عيسى {نعِم} بكسر العين، والتقريب الذي وعدهم به فرعون هو الجاه الزائد على العطاء الذي طلبوه والقرب من الملك الذي كان عندهم إلههم، واختلف الناس في عدد السحرة، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم، وكانوا مجموعين من مدائن مصر ريف النيل وهي كانت بلاد السحر الفرماء وأنصناء وغير ذلك ومعظمهم كان من الفرماء، والحبال والعصي كانت أوقار إبل، وقولهم {بعزة فرعون} يحتمل وجهين أحدهما القسم كأنهم أقسموا بعزة فرعون، كما تقول بالله إني لأفعل كذا وكذا، فكان قسمهم {بعزة فرعون} غير مبرور، والآخر أن يكون على جهة التعظيم لفرعون إذ كانوا يعبدونه والتبرك باسمه كما تقول ابتدأت بعمل شغل {بسم الله} {وعلى بركة الله}. ونحو هذا. اهـ.

.قال أبو السعود:

{فَلَمَّا جَاء السحرة قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ إئِنَّ لَنَا لأجْرًا} أي أجرًا عظيمًا {إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين} لا مُوسى عليه السَّلامُ.
{قَالَ نَعَمْ} لكُم ذلك {وَإِنَّكُمْ} مع ذلك {إِذًا لَّمِنَ المقربين} عندي قيل قال لهم تكونُون أوَّلَ من يدخلُ عليَّ وآخرَ مَن يخرجُ عنِّي، وقرئ نعِم بكسرِ العين وهُما لغُتانِ.
{قَالَ لَهُمْ موسى} أي بعدما قالَ له السَّحرةُ إمَّا أنْ تلقيَ وإمَّا أنْ نكونَ أوَّلَ منَ ألقَى. {أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ} ولم يُرد به الأمرَ بالسِّحرِ والتَّمويهَ بل الإذنَ في تقديمِ ما هُم فاعلُوه ألبتةَ توسُّلًا به إلى إظهارِ الحقِّ وإبطالِ الباطلِ.
{فَأَلْقَوْاْ حبالهم وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ} أي وقد قالُوا عند الإلقاءِ {بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} قالُوا ذلك لفرطِ اعتقادِهم في أنفسِهم وإتيانِهم بأقصى ما يُمكن أنْ يُؤتى به من السِّحرِ. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} أي لأجرًا عظيمًا {إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين} لا موسى عليه السلام ولعلهم أخرجوا الشرط على أسلوب ما وقع غي كلام القائلين موافقة لهم وإلا فلا يناسب حالهم إظهار الشك في غلبتهم.